مفهوم الدولة
الإطار الإشكالي لمفهوم الدولة
يطلق مفهوم الدولة على مجموع المؤسسات (سياسية، قضائية، إدارية، اقتصادية..)
التي تنظم حياة المجتمع في مجال ترابي محدد، مما يجعلها وسيلة لممارسة السلطة والهيمنة بواسطة هذه المؤسسات على الأفراد والجماعات.
وهذا يدفعنا للتساؤل عن مدى مشروعية الدولة وغاياتها، ثم طبيعة سلطتها، وكيفية
ممارستها لوظائفها.
المحور الأول: مشروعية الدولة وغاياتها
-1تثبيت الإشكالية :
كل من فكر في الدولة
وجد نفسه مضطرا للتفكير في أساس مشروعيتها وغاياتها، لأن الدولة لا يمكنها أن تقوم
بشكل دائم إلا على أساس دائم، وهو ما سمي بمشروعيتها والتي تضمن لها القبول الدائم،
هكذا فكل دولة تستند إلى مشروعية ما، وانطلاقا من هذه المشروعية يتم اختيار غايات وجودها،
إذ يصعب الفصل هنا بين مفهومي المشروعية والغايات لأنهما مترابطان معا بشكل لا يقبل
الفصل؛ فمن أين تستمد الدولة مشروعيتها؟ وما هي الغاية من وراء وجودها؟
-2تحديد دلالات المفاهيم :
-مفهوم الغاية: يدل على ما لأجله
يقدم الفاعل على فعله، وهي ثابتة لكل فاعل فعل بالقصد والاختيار، فلا توجد الغاية في
الأفعال غير الاختيارية.
- مشروعية الدولة: تشير إلى مجموع
التبريرات والدعائم التي ترتكز عليها الدولة من أجل ممارسة سلطتها على مواطنيها.
-3 مطلب التحليل :تصور اسبينوزا (1677/1632) :تقوم الدولة على مشروعية التعاقد وغايتها تحقيق الحرية والكرامة الإنسانية
قطع فلاسفة التعاقد الاجتماعي مع التصور الديني للدولة، وبلوروا فكرا جديدا
يربط الدولة بفكرة التعاقد المبرم بين الأفراد ككائنات عاقلة وحرة. هذا التعاقد الحر
سيؤسس الدولة على قوانين العقل، التي من شأنها أن تتجاوز مساوئ حالة الطبيعة القائمة
على قوانين الشهوة، والتي أدت إلى الصراع والفوضى والكراهية والخداع. لتصبح بذلك غاية
الدولة هي تحقيق إنسانية الإنسان والمتمثلة حسب الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا في تحرير الأفراد من الخوف
وضمان حقوقهم الطبيعية المشروعة: الحق في الحياة و الأمن والحرية. هكذا يرى اسبينوزا أن الغاية من تأسيس الدولة
هي تحرير الأفراد وإتاحة الفرصة لعقولهم لكي تفكر بحرية وتؤدي وظائفها بالشكل المطلوب
دون استخدام لدوافع الشهوة من حقد وغضب وخداع. يختصر اسبينوزا الغاية من وجود الدولة بقوله: "الحرية هي الغاية
الحقيقية من قيام الدولة".
-4 مطلب المناقشة :تصور هيجل (1831/1770) : الدولة غاية ذاتها، وتقوم على مشروعية العقل.
انتقد هيجل التصور التعاقدي الذي يعتبر أن للدولة غايات خارجية مثل تحقيق
السلم وضمان الحريات(غايات المجتمع المدني)، واعتبر أن الدولة غاية في ذاتها تمثل روح
وإرادة ووعي أمة من الأمم، وتعتبر تجسيدا للعقل الأخلاقي الموضوعي. إنها التحقق الفعلي
للروح الأخلاقي باعتباره إرادة جوهرية وكونية. ومن واجب الأفراد أن يكونوا أعضاء في
الدولة وأن يتعلقوا بها لأن في ذلك سموهم وعلو مرتبتهم، فلا يكون للفرد وجود حقيقي
وأخلاقي إلا بانتسابه إلى الدولة. هكذا يعطي هيجل الأولوية في تحليله للكل على
حساب الجزء، وللدولة على الأفراد، ويجعل مصيرهم في أن يحيوا حياة عامة وكونية. إن مشروعية الدولة عند هيجل إذن لا تستمد من التحالفات القائمة بين الأفراد أي
التعاقد، بل تستمد من مبادئ عقلية وموضوعية تتأسس عليها الدولة بشكل حتمي يتجاوز
الإرادات الفردية ذاتها.
-5مطلب التركيب:
يتضح أن التصورات المرتبطة بمشروعية الدولة وغاياتها تختلف وتتباين باختلاف
المنطلقات التي ينطلق منها كل فيلسوف، فنجد من يعتبر أن مشروعية الدولة تستمد من الاتفاق
التعاقدي بين الأفراد وبالتالي تكون غايتها حفظ الأمن وتحقيق الحرية للجميع، ومن يعتبرها
تستمد من مبادئ عقلية وموضوعية تتأسس عليها الدولة بشكل حتمي يتجاوز الإرادات الفردية
ذاتها. لكن في الأخير يمكن القول أن الدولة لها الدور الأساس في التحقيق الفعلي لإنسانية الإنسان.
المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية
-1تثبيت
الإشكالية :
حينما يتم التساؤل
عن طبيعة السلطة السياسية فإن الأمر يتطلب بالضرورة الحديث عن علاقة الدولة بالمواطنين،
أو علاقة الحاكم بالمحكومين.فما هي إذن طبيعة السلطة السياسية؟ وما هي طبيعة العلاقة
التي ينبغي أن تكون بين رجل السياسة من جهة، ومن يمارس عليهم سلطته السياسية من جهة
أخرى؛ هل تقوم على الرفق والإعتدال أم على القوة والتسلط؟ وبتعبير آخر، ما هي الخصائص
التي يجب أن تميز الممارسة السياسية للأمير أو السلطان مع شعبه أو رعيته؟
-2 تحديد دلالات المفاهيم :
-مفهوم السلطة : القدرة أو الإمكانية التي
يتوفر عليها فرد أو جماعة، فتمارس تأثيرها على الآخرين وتوجه تصرفاتهم.
-3 مطلب
التحليل :تصور نيكولا ماكيافيلي(1527/1469)
السياسة صراع وقوة وخداع
تميزت مرحلة ميلاد الدولة الحديثة بالدعوة إلى انفصال
الكنيسة (الدين) عن السياسة، فكان ماكياڤيلي من المؤيدين لهذا الإنفصال (انفصال السلطة
الدينية عن السلطة السياسية)، ورأى أنه من الضروري سحب البساط من تحت أقدام البابا
وتسليم السلطة لشخص الأمير، وقد سعى ماكياڤيلي في كتابه الذي يحمل عنوان "الأمير"
إلى تبيان المميزات والخصائص التي يجب أن يتصف بها الأمير والتي ستخول له ممارسة سلطته
والحفاظ على استمراريتها.
يؤكد ماكياڤيلي في هذا الكتاب على أن القانون لا
يكفي لتدبير وتسيير شؤون مجتمع ما بشكل جيد ولا يكفل للأمير دائما الحفاظ على هيبته
ومصالحه، إذ في العديد من الأحيان يكون تطبيقه بشكل حرفي سببا في ضياع هذه المصالح،
لذا يلزم الحاكم أن يجمع بين القوة والقانون في آن واحد لأن غاية ومهمة الحاكم ـ حسب
ماكياڤيلي ـ هي الحفاظ على الحكم وضمان استمرارية سلطته، وذلك باعتماد جميع الوسائل
الممكنة المشروعة منها وغير المشروعة (الغاية
تبرر الوسيلة). وبتعبير ماكياڤيلي على الحاكم أن يكون ماكرا كالثعلب وقويا كالأسد.
بمعنى أنه على الأمير الناجح أن يعتمد القوة بالإضافة إلى التعامل بمنطق الحيلة والخديعة
إذا أراد الحفاظ على حكمه، من خلال إعطاء الوعود والتملص منها والتظاهر بالشفقة والرحمة
والتدين، واحترام طقوس العبادة، فكلها أساليب تقوي سلطته وتطيل عمر حكمه.
مما سبق يتضح أن السلطة عند ماكياڤيلي تستمد روحها
من مصدرين ؛ أحدهما مادي يتجلى في القوة والآخر رمزي يتمثل في استغلال الأمير لمجموعة
من القنوات من قبيل الدين والثقافة لتمرير سلطته والتظاهر أمام شعبه بصفات الرجل الورع
والمتدين والمتواضع، مما يجعل أتباعه يثقون به ثقة عمياء ويتمنون عدم موته ، وحتى في
حالة موته تظل ذكراه كحاكم عظيم.
-4مطلب المناقشة :تصور
عبد الرحمان بن خلدون (1382/1332) السياسة رفق واعتدال
يؤكد ابن خلدون على أن نجاح
الحاكم في تدبير شؤون رعيته رهين بنهج سياسة الاعتدال والتوسط دون إفراط ولا تفريط،
فالحاكم الجيد ليس هو ذلك الذي يتعامل مع رعيته بالقوة والبطش والتسلط، ولا هو كذلك
من يتحلى باللين والرقة المفرطين؛ وإنما ذلك الذي يحاول التقريب بين الأسلوبين، لأن
المغالاة في القوة تخلق الخوف والخذلان في نفوس الأتباع، كما أن اللين والرفق والرقة
ينميان في النفس الكسل والخمول، لذا يتوجب
على الحاكم العمل بمنطق الوسطية والاعتدال.
وتعود هذه القاعدة (مبدأ
الوسطية والاعتدال) إلى الفلسفة اليونانية وتحديدا مع أرسطو وأيضا إلى المرجعية الإسلامية،
وتستمد مبررها من أن الفرد ملزم بأن يبحث عن شيء وسط يمكن أن يقوم به ويحترمه في سائر
الظروف والمناسبات. فالإنسان الشجاع مثلا ليس هو المتهور بشكل كامل ولا هو بالخائف
والجبان بشكل كامل، والحاكم الجيد ليس بالحاكم المفرط في القوة والذكاء ولا بالحاكم
المغفل واللين بشكل مفرط.
-5مطلب التركيب
يبدو أن تصور كل فيلسوف
للسلطة السياسية نابع من المناخ السياسي وطبيعة الدولة في عصره وفي مجتمعه، فماكياڢيلي
الحالم بوحدة إيطاليا وقوتها دفعه لتصور سلطة سياسية تتسم بالپراغماتية (الغاية تبرر
الوسيلة)، أما ابن خلدون باعتباره مرآة عصره فموقفه اتسم بالتحليل التاريخي للسلطة
السياسية في المجتمعات العربية الإسلامية.
المحور الثالث: الدولة بين الحق والعنف
-1تثبيت
الإشكالية :
احتاج ميلاد الدولة لشروط وتراكمات عديدة لم يقدر
لها أن تجتمع إلا في العصور المتأخرة، حيث تم تذويب خلافات الأفراد، لأول مرة، والتقريب
بين رغباتهم عن طريق إبرام تعاقد، تم من خلاله الاتفاق على جملة من القوانين والقواعد،
بهدف الانتقال من حياة يسود فيها الاقتتال والعنف وغلبة قانون القوة إلى حياة قائمة
على التعاون والسلم واحترام القانون، غير أن الواقع أثبت عدم كفاية القوانين بمفردها
لتنظيم حياة الأفراد وممارسة الدولة لسلطتها. مما دفعها إلى الاستعانة بوسائل أخرى؛
متمثلة أساسا في القوة والعنف لفرض سيطرتها وممارسة سلطتها. فكيف تمارس الدولة سلطتها
إذن؛ هل باعتماد الحق والقانون أم باعتماد القوة والعنف؟ وبعبارة أخرى هل تستطيع الدولة
تنظيم شؤون الأفراد وضمان حقوقهم دون الإستعانة بالعنف أم أن هذا الأخير أداة لا غنى
عنها؟ وإذا كان الجواب يؤكد على ضرورة اعتماد الدولة على العنف فما هو نوع العنف الذي
تختص به الدولة؟
-2تحديد
دلالات المفاهيم :
-العنف: استعمال القوة تجاه الغير وذلك بهدف إخضاعه لإرادة
الذات.
-3 مطلب
التحليل :تصور ماكس
ڤيبر (1920/1864):" إن الدولة هي المصدر الوحيد الذي له الحق في ممارسة العنف".
نجد أن ماكس ڢيبر نظر إلى الدولة من زاوية سوسيولوجية
باعتبارها تجمعا بشريا في حدود مجال جغرافي معين وتنظيما سياسيا وإداريا واقتصاديا
لا يمكنه الاستغناء عن العنف لأنه جزء من الوظيفة الأساسية للدولة، فهي تمارسه في شكله
المادي والمنظم بقوانين وإجراءات ، وهي الجهاز الوحيد الذي له الحق في ممارسة العنف
واحتكاره، فهو حق مشروع تمتلك الدولة فقط وسائل استخدامه من أجل تدبير شؤون المواطنين
وضمان سيادتها في نفس الوقت. وغياب هذا العنف سيؤدي حتما إلى اختفاء مفهوم الدولــــــة
وبروز وانتشار الفوضى. وبذلك يصبح العنف ظاهرة صحية وعنصرا ثابتا ومغذيا
لوجود الدولة.
بناء على ما سبق يمكن القول أن السمة المميزة للدولة
هي العنف المادي المشروع لأنه وسيلتها الفعالة والخاصة بتحقيق غاياتها، ولا يسمح للأفراد
أو الجماعات باستعمال العنف إلا بتفويض وموافقة الدولة.
-4مطلب
المناقشة :تصور جاكلين
روس (1949/....): " إن دولة الحق تؤدي
إلى ممارسة معقلنة لسلطة الدولة، ممارسة تتشبث بالقانون وباحترام الحريات..."
تعترض جاكيلن روس على فكرة الدولة القائمة على العنف،
لأن العنف في نظرها لا يولد سوى العنف المضاد، لذلك ينبغي أن تتأسس الدولة على فكرة الحق والقانون والتمسك بالعدالة، وهذا
لا يتحقق إلا في ظل دولة الحق والقانون، وهي الدولة التي تتأسس على مبادئ ثلاث: الحق،
القانون و فصل السلط. ويترتب عن هذه المبادئ الثلاث ممارسة معقلنة لسلطة
الدولة، ممارسة تتشبث بالقانون واحترام الحريات وتحفظ الكرامة الإنسانية، ممارسة ضد
كل أنواع القوة والعنف والتخويف والتسلط والاستبداد. تقول روس في هذا الصدد:"
إن دولة الحق تؤدي إلى ممارسة معقلنة لسلطة
الدولة، ممارسة تتشبث بالقانون وباحترام الحريات كما تؤدي إلى نظام سياسي متوازن ينفتح
على مجال الحريات العامة".
-5مطلب التركيب
مما سبق يتضح أن نجاح الدولة
المعاصرة يتوقف على المزاوجة بين سلطة القوانين وسلطة العنف، لكن المشكل يكمن في أن
الآليتين متعارضتين، فهل من الممكن الجمع بينهما من أجل تحقيق نفس الغاية ؟ الجواب
الذي نقترحه هو أن التناقض الموجود بينهما تناقض ظاهري فقط لا يمنع اجتماعهما، وبالتالي
فلا مجال للفصل بين الدولة من جهة وبين القانون والعنف من جهة أخرى، فهي بهما وبينمها
وتدبرهما بما يتلاءم ومصالح المجتمع ومطالب العقل. فالدولة تمارس العنف المشروع باسم
الحق والقانون.
يمكنكم إضافة تعليق بخصوص الموضوع أعلاه؛
شكرا على تفاعلكم